انتهجت الدول المختلفةتاريخياً أطروحات العديد من المدارس الاقتصادية لإدارة اقتصاداتها . بدءاً منالمدرسة الطبيعية ، والتجارية ، وحرية الأسواق ، والتدخل الحكومي ، ثم العودةلآليات السوق . وقد تفاوت دور الدولة من التدخل الكبير ، إلى التدخل المتواضع ،إلا أن هذا الدور كان حاضراً في كافة التجارب . كما تفاوتت التجارب التنمويةالتاريخية حسب الظروف الدولية المحيطة . فالتجربة البريطانية اعتمدت على آلية بفعلسيطرتها على الأسواق العالمية وبفعل قدراتها التنافسية باعتبارها أول دولة صناعيةفي العصر الحديث . إلا أن تجارب ألمانيا والولايات المتحدة لم تخطو خطى التجربةالبريطانية لحاجتها للحماية ضد المنتجات البريطانية .
وحديثاً تفاوتتالتجارب الاقتصادية ، أيضاً . فالبلدان المصنعة حديثاً ، وبشكل خاص دول شرق آسيا ،اعتمدت في أغلبها على دور واضح وأساسي للدولة ، وعلى خطط اقتصادية ، وعلى بيئةدولية معينة كان من صالحها دعم التجارب التنموية في هذه البلدان . كما اتسمت تجاربهذه الدول بتوفر ، والعمل على توفير ، الشروط المسبقة للنمو خاصة في مجال رأسالمال البشري والمؤسسات ، والإدارة الاقتصادية المرنة لمواجهة الصدمات الخارجية .وكان من نتيجة الدور الناجح للدولة ، والتعاون مع القطاع الخاص ، ووضوح الأولوياتأن تطورت هذه الدول سواء من ناحية معدلات النمو أو توزيع الدخل الأقرب للعدالة .
وعند الحديث عنالبلدان العربية فقد بدأت أولى تجاربها الحديثة في أواسط القرن التاسع عشر ، تجربةمحمد علي باشا في مصر ، وتجربة داود باشا في بغداد ، وتجارب أخرى ، ثم امتدت في ظلفترات الانتداب ، ثم بعد الاستقلال السياسي منذ نهاية الأربعينيات والخمسينيات ،وبدء الستينيات من القرن الماضي . ورغم انتهاج أغلب هذه البلدان لمنهج الخططالاقتصادية الخمسية ، ودور الدولة في الحياة الاقتصادية ، وتحول لاحق لإعطاء دورأكبر للقطاع الخاص ، إلا أنها لم تحقق ما حققته البلدان المصنعة حديثاً ، رغم وجودالفوائض المالية في حالة بعض البلدان العربية . وبالتالي فقد ضيعت هذه البلدانفرصاً كثيرة لتعزيز النمو وتوسيع قاعدة توزيع الدخل . ويمكن أن يعزى السبب الرئيسيلعدم توفير الشروط المسبقة للنمو مثل رأس المال البشري الملائم ، والمؤسساتالملائمة ، وفصل السلطات واستقلاليتها ، والمرونة في إدارة الاقتصاد الكلي ،وبالتالي القدرة على الاستجابة للصدمات الخارجية (مع عدم إهمال للتأثيراتالخارجية).
وتحاول هذه المحاضرة الإشارة السريعة لبعض جذورمحاولات التنمية تاريخياً في بعض الدول العربية ، بعد الإشارة لأهم المدارسالاقتصادية ، التي سادت تاريخياً ولا زالت . مع الإشارة لدور الدولة ، والقطاعالخاص ، في هذه الجهود ومدى الاختلاف مع تجارب البلدان المصنعة حديثاً ، ثم التطرقإلى أهم المعوقات التي ساهمت في تضييع فرص التنمية وذلك بالاعتماد على عدد منالمؤشرات المقارنة .